الشارع الطويل الذي يعج بمرتاديه ويصخب بساكنيه فتري الورش ومحلات الخردوات والحلاقين وبائع العصير الذي يصنع عصيراً غريب الطعم فتراك تشرب كوب العصير وكأنك تشرب كأساً من الزرنيخ لتقتلع أخر جذورك من الدنيا
تعود أستاذ سيد أن يعود في مثل تلك الساعة من الليل ماراً في هذا الشارع الفاصل بين بيته وبين المكان الذي يركب منه السيارة التي تقله الي عمله -السائر عكس عقارب الساعة-فلا يري من حركة الكون الا يد السكون تداعب وجه الشارع ولا يسمع من صخب الحياة الا بقايا الصمت ومواءات القطط
وكأن الليل قد فرض علي الجميع أحكامه العرفية فأذعنوا لأمره وأنساقوا لأرادته فتري الشارع يهدأ بعد طول نباح ويسكن بعد أن أمعن في الحركة وأسهب في النشاط فلم يبق من هذا كله سوي دبيب الصمت
عندما مر سيد كعادته في نفس الشارع فلم ير في الشارع أثراً لأنسي ولا حتي كلب من تلك الكلاب التي تحيه كل يوم بنباحاتها وكأنها تأتنس به في تلك الساعة المتأخرة من الليل- مضي يطوي الطريق طياً حتي لا تطاله يد الحسرة التي تلاحقه كلما تذكر حياته التي تسير عكس نواميس الكون- يصحو عندما يفكر البشر في النوم وينام حين ينتفض الجميع لحركات النهار- أستوقفته تلك القطة المسكينة التي ترتعد من البرد وتتقطع من الجوع يفضحها بذلك جسدها الهزيل وعينيها الغائريتن التي تشبه البيارات
رأته فأقتربت منه وكانت علي عادتها تهرب اذا ما رأت البشرفي ذلك الشارع حتي لا تطالها معاول بطشهم ولكن قرصة الجوع قاسية
أنستها خوفها وكأنها قد راهنت علي مصيرها ببضع لقيمات
أقتربت منه ..نظرت اليه... أقتبست من ألامها موائتين مياو.....مياو أودعت فيهما كل مراراةٍ تحتويها وكأنها تقدم اليه طلب معونة فرق لحالها وأحس بما تشعر به خصوصاً أنه يشعر الان بما تشعر به بعد تلك الساعات التي قضاها في عمله
أقتر ب منها بحث في تلك الحقيبة الفضفاضة التي يلملم فيها حاجياته حتي وجد بين حناياها بضع لقيمات دفع بها اليها فطارت اليها نظرت اليها وكأنها لا تصدق ما تري أيسخو البشر بعدما لفظوها من رحمتهم ؟ أيعطفون بعد قسوة؟ ويجودون بعد شح؟
أفترست اللقيمات الصغيرة فطابت لها نظرت اليه وكأنها تستعطفه المزيد -فوجدت في نظراته الحزينة جواب الرفض فأطلقت له مواءات الشكر وكأنها ترفقت به لتخلصه من الحرج فربت عليها ثم أنصرف
عندما انتهي من عمله ذلك اليوم ومضي عائداً الي بيته كان يشعر في قرارة نفسه أنه سيجد صديقته تنتظره علي حرٍ من الجمر فأعد لها الطعام وجهز لها السقية ولما رأته وكان لا يزال علي قارعة الطريق والمسافة الفاصلة بينهما لا زالت كبيرة – طارت اليه فرحة مطلقة كل مواءاتها وكأنها الطفل الصغير رأي أبيه قادمأ من بعيد فجري اليه فرحأ وجلاً فاتحاً صدره للدنيا مولياً ظهره للالام حتي لا يطالع وجهها
جرت القطة اليه وجري اليها فرحت بلقيماته وفرح لفرحتها وكأنه يعيد الي ذكرياته الاصحاب الذي أفتقدهم والأبوة التي يحلم بها منذ دابعت أقدامه فيافي الشباب ، جلس يطعمها بيديه ويهدهدها كأبٍ يهدهد طفلته فيتلمس شعرها ويرجله ويحدثها وهو يوقن أن عقلها لن يستوعب كلماته ولكنه يأتنس بها يبوح اليها وكأنها خاطرته التي لم تكتب بعد
ياالله لو كان أهله ممن يسمحون بأقتناء الحيوانات لضمها الي بيته فهنأ وائتنس بقربها وتجرعت حنانه الرشفة تلو الاخري ولكن لن يسمحوا بذلك وربما قذفوا به هو الأخر تأديباً وتهذيباً وأصلاحاً له ولكن لن يبعدها عنه شئ- حسبه من السعادة تلك اللحيظات التي يقضيها معها في هدأة الليل البهيم
لم يكن سيد قد ورث من عائلته سوي مرض الربو الذي أل اليه فيما ال اليه من قسوتهم رغم قساوة ذلك المرض وتلك الالام التي تحوطه لم يقعده يوماً عن صديقته حتي تلك الالام التي تداهمه اذا ما تعرض لقرصة البرد في ليالي الشتاء كان يري في وداعة صديقته عوضاً عنها
كان يري الصداقة نهراً يزيده العطاء تدفقاً ويحوله الجفاء الي أرض جدباء فلم يتوقف عن رفد ذلك اليوم- حتي يوم الاجازة كان يتعمد البقاء خارج البيت الي حتي يرخي الليل ستره ويلملم صخبه حتي يهنأ بحلاوة الصحبة ولا تطاله أعين المتلصصين فيبددون وداعتها ويهتكون سترها
أستيقظ سيد ذات يومٍ علي ألام ٍ تهاجم كل خلاياه ودبيبٍ مثل دبيب النمل ما بين جلده وعظمه -تمني لو يرتاح ذلك اليوم في فراشه لعله يسترد شيئاً من عافيته التي سلبت منه ولكن موعده مع صاحبته أقوي من كل الام ومقام الصداقة أسمي مما سواه.
مضي كعادته الي عمله متحاملاً علي نفسه حتي أسدل الليل الستار علي اخر فصوله فعاد كعادته الي الشارع يمني نفسه باللقاء .وجدها كعادتها فوضع الطعام لها وبينما بدأت بتناوله أحس هو بالدنيا تدور من حوله وشعر بيدي الموت تمسك بتلابيبه فنظر اليها مبتسماً وتلفت حوله فلم يجد أحد حوله فأتكأ علي الرصيف وأطلق لعينيه العنان لتنام
فرغت من طعامها فأطلقت مواءات الشكر لكنه علي غير العادة لم يبتسم لها ولم يهدهدها فظنت أنه غاضب منها أويتغافل عنها فأقتربت منه تتمسح به وتوخزه برفق لعله ينتبه اليها لكن .....................لا شئ فأطلقت لمواءاتها العنان وكأنها تستصرخ أهل الشارع الممعنين في السبات –ظلت تطلق المواءات حتي أستيقظ اهل الشارع وكأنها نافخ السور أطلق صيحته فأستيقظ أهل القبور بعد طول ممات
كاد ت أيديهم تمتد بالبطش الي القطة التي قضت مضاجعهم لولا أن رأوا سيد أفندي ممداً علي الارض وكانوا يعلمون من قبل بمرضه وتوعكه فظنوا أن أغماءة خفيفة أصابته فجروا اليه يحاولون أفاقته لكن أستفاقتهم جاءت بعد فوات الأوان وأقترابهم جاء بعد أن ترك الأرض التي تضمهم
بين تشييع الحي بأكمله وعويل النائحات علي ذلك الشاب الذي عاش وحيداً ومات وحيداً خرجت هي تشيعه علي أستحياء حتي لا تطالها أيدي الطغاة فتحرمها وداعه وبقيت حتي أنصرفوا فوقفت علي قبره تطلق صرخات طفل فقد الابوين فلم يبق له من الدنيا الا الوحدة ظلت تصرخ وتصرخ مياو مياو... حتي أرخي الليل علي البرايا ستره فنامت علي القبرو أطلقت لألامها العنان لتنام
عندما أصبح النهار وخرج الرجل البدين ليقتبس من ألام الخلق نقوداً يزداد بها بدانةً علي بدانته يطلق كلمته المعهودة كل صباح (أبعت يارب ) وكان ما يتنماه من الغيب جثة جثتين يمتص دم أبائهم ليدفنهم – مضي يتدحرج حتي وجد القطة نائمة علي القبر رفسها بقدمه لتستيقظ فلم تجب نداءه أمسك بها فعرف أنها ماتت ...وهنا ...
صنع من ذراعه اليمني ما يشبه المروحة وظل يلفها في الهواء ثم قذف بالقطة الراقدة بين يديه خارج أسوار المقابر وكأنه ضرير أعمي الطمع بصره عن حفرة يواري فيها الجسد وكأن أيدي البشر العابسة أمتدت الي الحيوان الضعيف فمنعته الحياة معهم وعندما مات ليفر من سطوتهم امتدت اليه أيديهم مرة أخري تمنعه حق الموت والتواري عن الألام.
الاثنين، 30 مارس 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق