في ليلة شتوية شديدة البرودة حيث الامطار لا تتوقف عن الهطول والرعد يصك الاذان والسماء تبدو كحبلي محملة بالمطر تنتظر مخاضها أحسست أني كدجاجة أنتزع منها ريشها الذي يقيها حر الصيف وبرودة الشتاء فسارعت الي عباءة جد ي الصوفية الخامة الريفية الطراز والتي تتزين بأكمام فضفاضة بدت لي من أول وهلة كسرداب لجدي يخبأ التاريخ فيه فتراه دائما يجري بساحته دافئا هادئ لا يصيبه الفتور أبدا . ارتديت العباءة فوجدت الدفء يتسلل الي كتسلل يدي الي مكتبة جد ي العامرة بالكتب التراثية التي تغطي شتي مناحي العلوم -وبين يقظة ومناما وجدت جدي يقف ببا ب غرفتي بجسده العجوز وروحه الغضة النضرة و يديه الكبيرتين قاسية الملمس وأبتسامته التي تتفجر حنوا وعطفا وقف جدي علي باب الغرفة يحمل تلك الأبتسامة الساخرة التي يطلقهادائماعندما يستطيع بحنكته فك اي حصار يضرب حوله فعلمت أنه أستطاع منذ قليل فك الحصار الذي اقامته عليه جدتي منذ أصيب بالوعكة الاخيرةطالعتني أبتسامته البشوشة ووجهه الصبوح فقمت من فوري أفسح له مكانا في سريري ودفئا في وسادتي- فتهادي الي الحجرة بخطي حثيثة قيدها ذلك التيبس الذي أصاب شقه الايمن منذ بضع شهور فأخذت بيده ليجلس ويبثني مكنون فؤاده فأبثه روحا من شبابي الفتي –وأبثه تأوهات نفسي فيبثني روحا من الامل وفيوضا من الحكمة عندما جلس جدي علي سريري وسري الدفء في جسده و جرت الكلمات علي لسانه حدثني عن أول مرة رأي فيها جدتي وأنساق في وصف تلك اللحظة وكيف مرت علي قلبه فسري فيه لهيبا ومرت عليها فخضبت وجهها بحمرة الخجل فطار الي أبيها ليخطبهامنه ووصف لي فرحته بأول طفل يرزقانه فكأنني أسمع صراخ الطفل وأنين الأم, ثم تذكر جدي أول يوم قضوه بالاسكندرية بعد أن نزحوا من الريف لهثا وراء لقمة العيش وكيف أستطاعوا أيجاد هذا البيت الفسيح الذي يأوينا حاليا وكيف أصر علي الاحتفاظ به رغم شظف العيش وألحاح جدتي علي تركهثم مضي يحكي عن أيام الشقاوة كما يسميها وكيف كانوا يتخطفون جنود الاحتلال من الشوراع والأزقة وكيف ردوا الاحتلال عن بورسعيد ودحروا الصهاينة في سيناء. بدا وجه جدي وهو يروي ذكرياته كشاشة عرض عملاقة تتجلي عليها كل خبايا نفسه فاذا مر بيوم حزين وجدت صفحة وجهه تتلون بظلمة قانية كلون السماء قبل هطول المطر وقد حملت أجزاؤها بالمطر أما اذامر بذكري سعيدة بدا وجهه كالقمر في ليلة التمام وكالشمس في يوم ربيعي مشمس والنسيم قد تهاد ي علي صفحة الكون الفسيحومضي جدي بالذكريات تسلك به مسالك شتي فتارة تسكننا قمم الجبال عند نجاح أحد أبنائه وأخري يحتوينا قبرأً واري فيه عزيزاً لديه حتي بدا الليل مصراً علي الرحيل وقد جمع أخر أشلائه- وهنا تسلل السقم الي ذاكرة جدي والتعب الي أعضائه فأستاذنني أن نكمل في يوم أخر فترفقت به ووافقته علي مضض, وعندما هممت أن أخذ بيد يه لادخله غرفته أستوقفتني أشارة منه تبثني رغبته أن يبيت ليلته عندي فوافقت من فوري فلطالما تمنيت أن يحتويني صدره وتضمني ذراعيه – غير أنه لما ضمني هذه المرة الي ذراعيه لم ألحظ تيبسا فيها ولا فتورا في عضلاتها- وكأنها ذراعي شا ب قد جاوزالعشرين منذ قليل- فـتأزرت بها ونمت ونام جدي . عندما هبت تباشير الصباح نازعة عن المدينة حجاب ظلامها وجدت يدين توخزني وخزا شديدا وصوت أمي المرتفع يشق الأفاق تنبهت فوجدتني لا زلت في عباءة جدي وفي يدي أجندة مذكراته وهنا أستشاطت أمي غضباً لتأخري عن أمتحان التاريخ وأزداد بركان ثورتها فوراناً عند ما وجدت تلك المذكرات في يدي فعرفت علي الفور أني قد بت ليلتي معها ولم أقرأ مادة التاريخ فقمت من فوري أقبلها بين عينيها لتعلم أني أستذكرت تاريخي جيدا ورغم أستمرار صراخها من تباطئي وجدتني أذهب لأتفقد جدي في نفس المكان الذي ألفته فيه منذ مولدي علي تلك الصورة التي أحتلت جدار حجرتي منذ مات قبل ولادتي بخمسة أيام فطالعتني أبتسامته العذبة التي لا تزال تزين وجهه فأبتسمت له ثم خلعت عباءته وانصرفت
الخميس، 26 مارس 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق